.
  سيرة 31
 

مذكرا ت موموح
سيرة 31
 

محمد   الصفا

لم تكن تحملُ عصاً لِتتوَكَّأَ عليها أو لِتَهُشَّ بها على كلاب القرية، لكنّها كانت تَظهَرُ للنَّاظِر كأنّها تَتَعَكَّزُ ظِلَّها مُعتمدةً على هامَةٍ تَلاعَبَ بها الزَّمَنُ و تَفَنَّنَ الفقرُ في نَحْتِ نَحافَتِها.
قرويةٌ كأنّها قادمة من قبيلة الغجَر أو كعَجُوزٍ آتيةٍ من بلاد السَّحَرة، مَنْثُورةُ الشعْر رَثَّةٌ أسمالُها و خفيفةٌ بالكادِ تستُرُ جسدَها فتخالُها عانِساً تتحرَّشُ بالهواء، تُفاجئُك حين تلقاها فهي كَضَبابةِ الفجر الخارجةِ من العدَم تُغالبُ بقايا ظلامِ ليلٍ مُوَدِّعٍ لا تَسمعُ لها صوتاً و لا تكادُ ترى لها أثرا.
يقف موموح عند قاعدة جِدعِ أول زيتونةٍ مُقابلةٍ لِشِبْهِ الدُكَّان الوحيد بالقرية، و الذي تفوحُ منه رائحةٌ قويةٌ لِكاز "لَمْبا" المعروض للبيع، لِيتَصَفَّح بقايا مجلّات قديمة بها صُوَّرٌ لعارضات الأزياء و التي يستعملُها صاحبُ الدُّكان لتلفيفِ السِّلع.
يَرفَعُ موموح رأسَه على صوت التاجر و هو يرُد : " تَقْطا القهوة أ خالتي رابْحة" رغم أنَّها لمْ تسْألْهُ بعد، فهي مُدْمِنة على شُرب القهوة السوداء و الكُلُّ بالقرية يَعْلمُ ذلك و لا يمكن لها أن تأتي الى الدُّكَّان إلّا مِن أجْل القهوة التي تحصُلُ عليها لِأجَلٍ أو مُقابِل بعض البيض.
يرى موموح، و لَيْثَهُ ما رفَع رأسه، عينين غائرتين تُعْلِنان عن حُزنٍ عميقٍ ممزوجٍ بِحاجةٍ مُلِحَّة، تُلْقِي "رابْحة" التّحِيّة فينزَعِجُ موموح و هو يُتابعُ انصِرافَها و كأنّه يَسمعُ زَلْزَلَةَ وَهْمِ الحياة تحت قَدَمَيْها الحافِيَّتيْن.
كانت أُمّاً لأُسْرة متعددة الأطفال و زوجةً لِرَجُلٍ سارت بِكَسَلِه الرُّكْبان، لم يكُن للعائلة أيُّ مصْدَر للدَّخْل، و يعتقد موموح أن النقود هي من الأشياء التي كانت غريبة على أفراد عائلة "رابحة".
كذلِكُم كانت الحياة و لا زالت بقُرى الأعالي...

 
  Aujourd'hui sont déjà 19734 visiteurs (49631 hits) Ici! Copyright Mohamed SFA 2008  
 
Ce site web a été créé gratuitement avec Ma-page.fr. Tu veux aussi ton propre site web ?
S'inscrire gratuitement