مذكرات موموح
سيرة 30

محمد الصفا

لم تكُنْ جميلةً، لكنها كانت و كأَنَّها تَتَلألأُ في مَكانِها، تمشي و كأنَّما تُثْقِلُ ألحانُ الطريق مَمْشاها... فوضويةٌ في حركاتها كما الغزالة البرِّيَّة....ضحكتُها كوردةٍ بيضاءَ تحاول أن تُطِلَّ من بين أشواك "أَخْلِيجْ" التي تُحاصِرُها، كانت أنيقةً ذكيةً تمتاز بحضورٍ قوي لكنَّها حزينةٌ رغم كل شيء، و كان اسمُها "مريم".
أما الأُخرى فكانت أُنُوثًتُها تفْتَقِرُ إلى الحدِّ الأدنى من مُكَوِّنات الجَمال، عادية في كُلِّ شيء دون أن تكون لِبَساطَتِها قيمةٌ مُعيَّنة، و كان اسمُها "يامْنة".
كانتا تمتازان بطموح غير عادي و تقتسمان مع أطفال "أفوزار" التحدِّي و التطلُّعَ إلى المستقبل، و كان موموح كعادته وَلوعٌ باستفزاز نفْسِه بأسئلة لا تنتهي.
كان موموح يَوَدُّ لَوْ عَرِفَ لماذا يُجلِسُ المعلّمُ الفتاتين معاً بالطاولة الأُولى، كما أنه اعْتاصَ عليه أن يفهمَ لماذا تنزَوي الفتاتان جانباً وقتَ الاستراحة و لا تشاركان الفِتيان اللَّعِبَ و الحديث، و لماذا تغيب "ميمونة" عن المدرسة رغم أن أباها يُعَدُّ من كبار أعيان القرية الذين يعود إليهم فضلُ استِصْدار قرارِ إحداث المدرسة ب "تحفورت"، فتياتٌ أُخرَيات فضَّل ذَوُوهُنَّ تَرْكَهُنَّ خارج المدرسة للقيام بمهام المساعدة بالحقل و المنزل و لأسباب أُخرى ترتَبِطُ بظُروفِهِنَّ النِّسْوِيَّة...
لكنَّ أَشَدَّ ما كان يُؤرِّقُ موموح هو غيابُ الجواب حول مكانِ قضاء الفتاتان لِحاجتِهما في ظِلِّ غياب المراحيض بالمدرسة.
من خلال تأكيد عَمِّ أُمِّ موموح بأن الفتاة في جميع الأحوال مآلُها بيت الزوجية مباشرَةً بعد حُصولِها على "الشهادة" إن لم تُغادرْ قبلَ ذلك، فهِمَ موموح أن الأمرَ أكبرُ منه بكثير...
بقدْر ما كان تمدرسُ الفتيات أمراً غائباً عن أولويات ذلك الزمان بقدْر ما يَحِقُّ لموموح أن يفتخر فقد كانت معه بالقِسْم فتاتان اثنتان و كان ذلك في ستينيات القرن الماضي، أما حكومة الألفِيَّة الثالثة فهي بامرأة واحدة، و كأنَّ المُناصفةَ صارت حُلْماً مُحْتَجِباً أو مُتَحَجِّباً.
آه يا موموح، كم يحزُّ في نفسك أن ترى لك أُمّاً أُميَّةً لا تقراُ و لا تكتب، ما قيمتك كشخص،مهما علا شأنُك، و أنت ابن امرأة منعتْها الجاهليةُ من التَّعلُّم ؟
أُحِبُّك أُمِّي...