.
  سيرة 29
 

مذكرات موموح
سيرة 29

محمد الصفا

لَوْ اطَّلَعْتُمْ على "عين الكُوشْنِي" لَمُلِئَتْ منه قلوبُكُم خوفاً و لَوَلَّيْتُمْ هَرَبَا، مكانٌ تَخشعُ به الأنفُسُ و تَقْشَعِرُّ منه الأبْدان، لمْ يكُنْ موموح لِيَجْرُؤَ فيَنْظُرَ ذاتَ اليمين في اتجاه هذه النقطة السوداء كُلَّما مَرَّ مُسرِعاً بالطريق "الرئيسية" إلى قرية "العَرْصَة".
يمتلكُ الخوفُ موموح تَزايُدِيّاً من "بُومْحَلَّمْ" حتى "لَمْلاعَبْ" مروراً عبر "عين لَفْجارْ" المقابل لِ "عين الكُوشْني"، و ليس بإمْكانِه أن يتذكَّرَ مرَّةً واحدةَ مَرَّ مِن هناك غيْرَ هاربٍ من الرُّعْبِ الذي يفْرِضُه المكان، بل يكادُ يَجْزِمُ أنْ لا وُجودَ لإنْسٍ وَطِئَتْ قدَماهُ المَمَرَّ و لمْ يَهْتَزَّ هُدوءُه.
يرتفع "عين الكوشني" عن السفح بحوالي مائة و خمسين متراً أو يزيد، تحتضِنُ "العينَ" غابةٌ كثيفة تزيدُها طبيعةُ أشجارِها الخشنة ظلاماً يُخَيِّمُ على المكان في كُلِّ الأوقات.
تمُرُّ الطريقُ الرابطة بين "تحفورت" و قرية "أَفُوزار" عبْرَ "الكوشني" وُجوباً و تبدأُ تصاعُدِيّاً من البداية من "تحفورت" حتى النهاية فوق "أفوزار" لمدة ساعتين أو تزيد، و كان على أربعة أطفال أن يسلُكوا هذه الطريق نزولاً في الصباح الباكر و صُعوداً بعد انتهاء المدرسة مساءً، غُلِبُوا على أمرِهِم إذْ قالوا هؤلاء أهلُنا فَرَضُوا علينا دَوْرَةَ العذاب و ما نحْنُ بِرافِضين.
حَمُّو، أمزيان، بوعبيد و مولود، أطفالٌ يحملون في عيونهم عناوينَ البراءة و على وجْناتِهم الدائمةِ الاحمرارِ يُقْرَأُ صَكُّ الانتماءِ إلى قُرى الأعالي، تكادُ تَرى الطموحَ يُرَفْرِفُ مِنْ حَوْلِهِم و تَحْسِبُهُم رجالاً رغم طفولتهم الظاهرة، إنَّهُم فِتْيَةٌ آمَنَ ذَوُوهُمْ بجدوى المدرسة في الترقية الاجتماعية و زادتْهُم "شجاعتُهُم" إصراراً على التَّعَلُّمِ و تحدي الخوف و المعاناة.
مَرَّ الفتية على "الكوشْني" و هُمْ صُعودٌ فشرب أحدُهُم من عينها فقال لِصَحْبِهِ و هو يُلاحِقُهُم مُسرِعاً إن للماء لَرائحةٌ قويةٌ ليستْ للأبقار و لا هي للبغال، فقال قائلٌ منهم و هو يُسْرِعُ الخُطَى رُبَّما كانت الرائحة لخنزيرٍ لطَّخَ جنبات العين بعَرَقِهِ النَّتِن.
يَحْكِي حَمُّو أحَدُ الفتية الأربعة (زارني مشكوراً بالمستشفى العسكري بالرباط يوم 28 ديسمبر 2011) أنَّهُم وَجَدُوا في صباح اليوم الموالي لقِصَّةِ الرائحة و هُمْ نُزولٌ نصفَ جُثَّةِ خنزير على الطريق فوق "المَنْسيفْ" فتجَمَّدَ الدَّمُ في عروق الصغار الذين جلسوا يتنازعون أمْرَ اتِّجاهِ مُواصَلَةِ الطريق، فقرروا الرجوعَ صعوداً إلى قريتِهِم "أفوزار" و الامتناع عن الالتحاق بالمدرسة.
وُضِعَ الفتيةُ عند عائلات بِ"العرصة" و "إعْكْرادَنْ" وتقاضى وزيرُ التعليم أَجْرَه كاملاً دون أن يُبالي بغياب دار للطالب أو داخلية بِ "تحفورت" لأطفال "أفوزار" و "بُولْبِيب" و لَمْزارْدا" و "لَمْخاط" و "المَنْسيف"...
رحم الله صديقي بوعبيد و تحية إعجاب و تقدير إلى حمو و أمزيان و مولود و تَبّاً لكل وزراء التعليم حتى اليوم على "تشجيعهم" للتَّمَدْرُسِ بِقُرى الأعالي.

 
  Aujourd'hui sont déjà 19734 visiteurs (49624 hits) Ici! Copyright Mohamed SFA 2008  
 
Ce site web a été créé gratuitement avec Ma-page.fr. Tu veux aussi ton propre site web ?
S'inscrire gratuitement