مذكرات موموح
سيرة 54
محمد الصفا
تَحيَّرَ موموح و هو ينظُرُ الى رُكبتَيْ الفتى الإفريقي الذي افترش الأرض ليقْرَأَ، فبَدتْ سُمْرتُه الذهبيَّة الجميلة و قد طالها الغُبار، و بَرَقَ بَصرُهُ و قد فاجأه أن يرى بالصُّورة التي علَتْها حُلْكَةُ الليل ضوْئيْن اثنين، الأوَّلُ باهتٌ فاقِعُ الصُّفْرَةِ ينبعثُ من زُجاجةِ مصباحٍ قديم، و الثاني ناصعُ البياض يَرتَدُّ منه التَّأمُّلُ خاسِئاً و هو كليل، تُصدِرُه صفحاتُ كُنَّاش يتيمٍ يُشْبِهُ كنانيش نساء مُحاربة الأُمِّيَّة.
بلهفةِ المُتعطِّشِ الى المعرفة بَدَا الفتى من خلال عينيه و شفتيْه كالجَوْعان المَنْهُوم عازماً على جَعلِ خطُوط الصَّفحة تتحدَّثُ إليه قَسْراً.
تذكَّرَ موموح و عيناهُ على الكُنَّاش الخَطَّ الأحمرَ الفاصِل بين حصانة المُعلِّم المُقدَّسة و فضاء الحُرِّيَّة المُخصَّص للتِّلميذ، و هي حدودٌ لم يفهمْ موموح قيمَتَها الَّا حينما خرج من محطَّة القطار بالعاصمة قادماً إليها من تازة و رأى لأوَّل مرة في حياته الأضواء الثُّلاثِيَّة، كما أنَّه لم يستوْعِبْ معناها إلَّا بمُدرَّجات كُلِّيَّة الحقوق بالرباط حيْثُ يتحدَّثَ الأساتذة على الخطوط الحمراء في كلِّ المجالات.
كما تذكَّر موموح و هو يُحَمْلِقُ بشِدَّة في تفاصيل هذه الآلة العجيبة التي صنعتْ لهُ الضَّوْءَ وأنارَتْ وَحشَتَهُ (الَّلمْبا) تذكَّر جيِّداً "تَشَمْكُراتِه" برائحتها و بقايا اليَحمُوم الصادر عن دُخَّانِها و هي راسيَّة على الجنبات الخارجية لمنْخَرَيْه.
كما أنْصتَ فتى تحفورت الى صدى الزَّمن الجميل يحمِلُ إليه صوْتَ أُمِّه و هي تَحُثُّهُ على الاستغناء عن "الَّلمْبَا" بالاكتفاء بضوْء الشمْعة ليس تقْتِيراً بل اقتصاداً لطاقةٍ ثمينة.
يجلسُ الفتى الافريقي القُرفُصاء تماماً كما كان موموح و أترابُه يفعلون بإيعازٍ من أُمَّهاتِهم بطاحُونة الزيتون (تَسيرتْ) كما جرت العادةُ بذلك احتفاء بموسم طحن الزَّيتون، حيْثُ يتَحلَّقُون حول إناءٍ صغيرٍ من خشب (تَزِيطِوْطْ) به زيْتٌ و يتنافسون على الغمْس و رسم الحُفَر في "أشداق" الخبز بالإبْهَامِ و ملئها بالزَّيت الجديد المُستخرج تَوّاً من "النّْقير"، فكانت بُقَعُ الزَّيْتِ فوق كنانيشِهم و على لباسِهم تُرافِقُهُم على الدَّوام.
آهٍ يا موموح، رغم العزم و الطُّمُوح لم تكُن شُعلةُ القنديل و لا ضوْءُ "الَّلمْبا" كافِيَّيْن لإنارة الطريق لكافَّة رفاقِك...
سلامٌ يا رفاق موموح...
|