مذكرات موموح
سيرة 19
محمد الصفا
هَدادَيْكَ موموح، فقد تَصِيرُ هُزْأَةً للرّفاق، كذلك كان موموح يُحَدّثُ نفْسَه و قد أخذ قِطعةً من الثَّوْبِ مُخَضَّلَة بماءٍ يقطُرُ من وِطابٍ عند الباب الخارجي ليُزيلَ به أثَرَ سُخامٍ عَلِقَ بِساقِه مِنْ جَرّاء احتكاكِه ب "أَغَلاَّيْ" المُتّسِخِ بالسّواد و هو َيستعِدُّ للذهاب إلى المدرسة.
وصَلَ موموح إلى المدرسة بأُذُنَيْنِ حَمْراوَيْنِ مُقَرَّسَتَيْنِ من البرد و قد بَدَا وجْهُه مُتْرَعاً بسعادة زائدة، إنه يوم استفادة فوْج موموح من التغذية المدرسية.
تطُول الفترة الصباحية بالقِسْم بِفِعْل انتظار نهايتِها و قد عَاصَ الأَمْرُ على موموح الذي لم يَعُدْ يَنْتَبِهُ للدّرس فصار في حالة اسْتِغْلاقٍ على مستوى الإدراك و كما النائمِ في َروْبَصَتِه يمْشي كالْيَقِظِ الوَلُوع و قد أَوْلَهَهُ بياضُ رُبْعِ خُبزةٍ صغيرةٍ من القمح الطّرِيّ (الفُرْصْ)، آه على جَمالِه و نُعومَتِه و مَذاقِه، آه على حَلاوة الانتظار من أجْل الفوز بِه.
يتذكر موموح جيّداً كيف كان يَقِفُ بالطّابور أمام "المطعم" و عيناه شاخصتان تُحَدِّقان عَبْر الباب فيَعُدُّ أرباعَ الخبز الباقية و يُقارِنُها مع عدَدِ رِفاقه الواقفين أمامه ليتأكّد منْ أنّه سيحْصُل فعْلاً على نصيبه.
جاء دوْرُ موموح فحَصَلَ على مَعْشُوقِه النّاصِع البياض و نِصْفِ زَبادِيّةٍ منَ الألومينيوم بها حليبٌ ليس كحليبِ بقرةِ العائلة به نُكْهَةٌ أجنبية غير طبيعية.
رَطْبٌ في اللّمْس لَيِّنٌ في المَضْغِ مَنْفُوشٌ بفعلِ خميرةٍ عصرية فيَلتهِمُه موموح وُقوفاً في ثوانيّ معدودة بكلّ الْفرَح و اللّهْفَة، كيف لا و هو الذي اخْشَوْشَنَتْ لثَّتُهُ و لِسانُه من خبزٍ فَطيرٍ من الشعير خالٍ من اللِّين كَوَجْبة أساسيّة على مَدار الأسبوع، ثم كيف لا و هو الذي لا يرى أُمَّه تصْنع خبز القمح إلّا عند قُدوم الضُّيُوف و لا يأْكُلُ منه إلّا من خلال بقايا هؤلاء.
رغم سرورِه بنُجُوع انتظاره و مَسْعاه من خلال حصوله على حِصَّتِه من خبز الدولة المُصَنّع من دقيق مُهْدىً في إطار "الأُخُوّة" مع دولة أجنبية فإنّ موموح قد اسْتَنْقَصَ قيمةَ الغذاء، فما كان لبُدْرَة الحليب المُجفَّفة و لِخُبزٍ طَرِيٍّ ليُشْبِعَ موموح أَوْ ليُعَوِّضَ طبيعِيَّة حليبِ البقرة و خُشونَةَ خُبزِ الشّعير.
وَيْحَهُ موموح، لنْ يَجِدَ أُمه بالبيت لتُشْبِعَ فَراغَ بَطْنِه الذي أنْحَلَهُ الجوعُ فقد ذهَبَتْ إلى الغابة المجاورة لِجَمْعِ الحطب، و تَبّاً للتغذية المدرسية و لبرنامجِها الضعيفةِ سعراتُه الحرارية.
|